الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أصول السرخسي ***
قال رضي الله عنه: الممانعة على هذا الطريق على أربعة أوجه: إحداها في الوصف، والثانية في صلاحية الوصف للحكم، والثالثة في الحكم، والرابعة في إضافة الحكم إلى الوصف، وهذا لأن شرط صحة العلة عند أصحاب الطرد كون الوصف صالحا للحكم ظاهرا وتعليق الحكم به وجودا وعدما. أما بيان النوع الأول فيما علل به الشافعي في الكفارة على من أفطر بالاكل والشرب قال: هذه عقوبة تتعلق بالجماع فلا تتعلق بغير الجماع كالرجم. لانا لا نسلم أن الكفارة تتعلق بالجماع وإنما تتعلق بالافطار على وجه يكون جناية متكاملة، وعند هذا المنع يضطر إلى بيان حرف المسألة، وهو أن السبب الموجب للكفارة الفطر على وجه تتكامل به الجناية أو الجماع المعدم للصوم، وإذا ثبت أن السبب هو الفطر بهذه الصفة ظهر تقرر السبب عند الاكل والشرب وعند الجماع بصفة واحدة. وبيان النوع الثاني في تكرار المسح بالرأس فإن الخصم إذا علل فقال: هذه طهارة مسح فيسن فيها التثليث كالاستنجاء بالاحجار. قلنا: لا نسلم هذا الوصف في الأصل، فإن الاستنجاء إزالة النجاسة العينية، فأما أن يكون طهارة بالمسح فلا، ولهذا لو لم يتلوث شئ من ظاهر بدنه لا يكون عليه الاستنجاء، ولهذا كان الغسل بالماء أفضل. ثم المسح الذي يدل على التخفيف لا يكون صالحا لتعليق حكم التثليث به، وبدون الصلاحية لا يصلح التعليل، فيضطر عند هذا المنع إلى الرجوع إلى حرف المسألة وهو إثبات التسوية بين الممسوح والمغسول بوصف صالح لتعلق حكم التكرار به، أو التفرقة بينهما بوصف المسح والغسل، فإن أحدهما يدل على الاستيعاب والآخر يدل على التخفيف بعين المسح. وكذلك تعليلهم في بيع تفاحة بتفاحتين إنه باع مطعوما بمطعوم من جنسه مجازفة، فلا يجوز كبيع صبرة بصبرة من حنطة. لانا نقول: يعني بهذا المجازفة ذاتا أم قدرا؟ فلا يجد بدا من أن يقول ذاتا، فنقول: حينئذ يعني المجازفة في الذات صورة أم عيارا، فلا يجد بدا من أن يقول عيارا، لأن المجازفة من حيث الصورة في الذات لا تمنع جواز البيع بالاتفاق، فإن بيع قفيز حنطة بقفيز حنطة جائز مع وجود المجازفة في الذات صورة، فربما يكون أحدهما أكثر في عدد الحبات من الآخر. وإذا ادعى المجازفة عيارا قلنا: هذا الوصف إنما يستقيم فيما يكون داخلا تحت المعيار والتفاح وما أشبهه لا يدخل تحت المعيار، فلا يكون هذا الوصف صالحا لهذا الحكم، ولأن المساواة كيلا شرط جواز العقد في الاموال الربوية بالاجماع، ومن ضرورته أن يكون ضده وهو الفضل في المعيار مفسدا للعقد، والفضل في المعيار لا يتحقق فيما لا يدخل تحت المعيار، كما أن المساواة في المعيار الذي هو شرط الجواز عنده لا يتحقق فيما لا يدخل تحت المعيار، فيضطر عند هذا إلى بيان الحرف الذي تدور عليه المسألة، وهو أن حرمة العقد في هذه الاموال عند المقابلة بجنسها أصل، والجواز يتعلق بشرطين: المساواة في المعيار، واليد باليد. وعندنا جواز العقد فيها أصل كما في سائر الاموال، والفساد باعتبار فضل هو حرام وهو الفضل في المعيار، وذلك لا يتحقق إلا فيما تتحقق فيه المساواة في المعيار، إذ الفضل يكون بعد تلك المساواة، ولا تتحقق هذه المساواة فيما لا يدخل تحت المعيار أصلا. ومن ذلك تعليلهم في الثيب الصغيرة لا يزوجها أبوها لانها ثيب يرجى مشورتها، فلا ينفذ العقد عليها بدون رأيها كالنائمة والمغمى عليها. لانا نقول: ما تعنون بقولكم بدون رأيها؟ رأي قائم في الحال أم رأي سيحدث أم أيهما كان؟ فإن قالوا أيهما كان فهو باطل من الكلام، لأن الثيب المجنونة تزوج في الحال، ورأيها غير مأنوس عنها لتوهم الافاقة، فلا نجد بدا من أن نقول المراد رأي قائم لها، وهذا ممنوع في الفرع، فإنه ليس لها رأي قائم في الحال في المنع ولا في الاطلاق، فإن من لم يجوز تزويجها لم يفصل في ذلك بين أن يكون العقد برأيها (وبدون رأيها) ومن جوز العقد فكذلك لم يفصل، فعرفنا أنه ليس لها رأي قائم، وما سيحدث من علة أو مانع لا يجوز أن يكون مؤثرا في الحكم قبل حدوثه، ومن جوز حدوثه في المنع لا في الاثبات، إذ الحكم لا يسبق علته، فيضطر عند بيان المنع بهذه الصفة إلى الرجوع إلى حرف المسألة وهو أن رأي الولي هل يقوم مقام رأيها لانعدام اعتبار رأيها في الحال شرعا فيما يرجع إلى النظر لها كما في المال والبكر والغلام، أم لا يقوم رأيه مقام رأيها لما في ذلك من تفويت الرأي عليها إذا صارت من أهل الرأي بالبلوغ؟ وبمثل هذا الحد يتبين عوار من شرع في الكلام بناء على حسن الظن قبل أن يتميز له الصواب من الخطأ بطريق الفقه. وبيان الممانعة في الحكم كثيرة. منها تعليلهم في تكرار المسح بأنه ركن في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه، لانا لا نسلم هذا الحكم في الأصل، فالمسنون هناك عندنا ليس التكرار، بل الاكمال بالزيادة على قدر المفروض في محله من جنسه كما في أركان الصلاة، فإن إكمال ركن القراءة بالزيادة على القدر المفروض في محله من جنسه وهو تلاوة القرآن. وكذلك الركوع والسجود إلا أن في الغسل لما كان الاستيعاب فرضا لا يتحقق فيه الاكمال بهذه الصفة إلا بالتكرار، فكان التكرار مسنونا لغيره وهو تحصيل صفة الاكمال به لا لعينه، وفي الممسوح الاستيعاب ليس بركن فيقع الاستغناء عن التكرار في إقامة سنة الكمال، بل بالزيادة على القدر المفروض باستيعاب جميع الرأس بالمسح مرة واحدة يحصل الاكمال، وما كان مشروعا لغيره فإنما يشرع باعتباره في موضع تتحقق الحاجة إليه، فأما إذا كان ما شرع لاجله يحصل بدونه لا يفيد اعتباره، ألا ترى أنه لو كرر المسح في ربع الرأس أو أدنى ما يتناوله الاسم لا يحصل به كمال السنة ما لم يستوعب جميع الرأس بالمسح، فبهذا يتبين أن الاكمال هنا بالاستيعاب وأنه هو الأصل، فيجب المصير إليه إلا في موضع يتحقق العجز عنه بأن يكون الاستيعاب ركنا، كما في المغسولات، فحينئذ يصار إلى الاكمال بالتكرار، ولا يلزمنا المسح بالاذنين فإنه مسنون لاكمال المسح بالرأس، وإن لم يكن في محل المفروض حتى لا يتأدى مسح الرأس بمسح الاذنين بحال، لأن ذلك المسح لاكمال السنة في المسح بالرأس، ولهذا لا يأخذ لاذنيه ماء جديدا عندنا، ولكن يمسح مقدمهما ومؤخرهما مع الرأس، والمسح فيهما أفضل من الغسل إلا أن كون الاذنين من الرأس لما كان ثابتا بالسنة دون نص الكتاب يثبت اتحاد المحل فيما يرجع إلى إكمال السنة به ولا تثبت المحلية فيما يتأدى به الفرض الثابت بالنص، فقلنا لا ينوب مسح الاذنين عن المسح بالرأس لهذا. ومن ذلك تعليلهم في صوم رمضان بمطلق النية أنه صوم فرض فلا يتأدى بدون التعيين بالنية كصوم القضاء. فإنا نقول: ما تعنون لهذا الحكم؟ التعين بالنية بعد التعين أو قبل التعين أم في الوجهين جميعا؟ فلا يجدون بدا من أن يقولوا قبل التعين، لأن بعد التعين التعيين غير معتبر، وهو ليس بشرط في تأدي صوم القضاء، وإذا قالوا قبل التعين قلنا: هذا ممنوع في الفرع، فإن التعين حاصل هنا بأصل الشرع إذ المشروع في هذا الزمان صوم الفرض خاصة، فغيره ليس بمشروع، فلا نجد بدا حينئذ من الرجوع إلى حرف المسألة وهو أن نية التعيين هل يسقط اشتراطه بكون المشروع متعينا في ذلك الزمان أم لا يسقط اعتباره؟. ومن ذلك تعليلهم في بيع المطعوم الذي لا يدخل تحت المعيار بجنسه أنه باع مطعوما بمطعوم من جنسه لا تعرف المساواة بينهما في المعيار فيكون حراما كبيع صبرة حنطة بصبرة حنطة. فإنا نقول: إيش تعنون بهذا الحكم؟ أهو حرمة مطلقة أم حرمة إلى غاية التساوي؟ فإن قالوا: بنا غنية عن بيان هذا. قلنا: لا كذلك، فالحرمة الثابتة إلى غاية غير الحرمة المطلقة، والحكم الذي يقع التعليل له لا بد أن يكون معلوما. فإن قال: أعني الحرمة المطلقة، منعنا هذا الحكم في الأصل، لأن الحرمة هناك ثابتة إلى غاية وهي المساواة في القدر، وإن عنى الحرمة إلى غاية فقد تعذر إثبات هذه الحرمة بالتعليل في الفرع، لأن إثبات الحرمة إلى غاية إنما يتحقق في مال تتصور فيه تلك الغاية، وما لا يدخل تحت المعيار لا يتصور فيه الغاية وهي المساواة في المعيار، فكيف يتحقق إثبات الحرمة فيه إلى غاية؟ وعند هذا المنع يضطر إلى الرجوع إلى حرف المسألة كما أشرنا إليه. ومن ذلك تعليلهم في السلم في الحيوان أنه مال يثبت دينا في الذمة مهرا فيثبت دينا في الذمة سلما كالثياب. فإنا نقول: ما معنى قولكم يثبت دينا في الذمة؟ أتريدون به معلوم الوصف أم معلوم المالية والقيمة؟ فإن قال: أعني معلوم الوصف، منعنا ذلك في الأصل وهو المهر، فقد قامت الدلالة لنا على أنه لا يشترط فيما يثبت في الذمة مهرا أن يكون معلوم الوصف. فإن قال: نعني معلوم المالية والقيمة، منعنا ذلك في الفرع، فإن الحيوان بعد ذكر الاوصاف يتفاوت في المالية تفاوتا فاحشا. وإن قالوا: لا حاجة بنا إلى هذا التعيين، قلنا لا كذلك، فاعتبار أحد الدينين بالآخر لا يصح ما لم يثبت أنهما نظيران ولا طريق لثبوت ذلك إلا الايجاد في الطريق الذي يثبت به كل واحد من الدينين في الذمة، وعند ذلك يضطر إلى الرجوع إلى حرف المسألة وهو أن إعلام المسلم فيه على وجه لا يبقى فيه تفاوت فاحش فيما هو المقصود، وهو المالية على وجه يلتحق بذوات الامثال في صفة المالية هل يكون شرطا لجواز عقد السلم أم لا؟ ومن ذلك تعليلهم في اشتراط التقابض في المجلس في بيع الطعام بالطعام أن العقد جمع بدلين يجري فيهما ربا الفضل فيشترط التقابض كالاثمان، فإنا نقول: إيش المراد بقولكم فيشترط فيهما تقابض؟ أهو التقابض لازالة صفة الدينية أو لاثبات زيادة معنى الصيانة، وأحدهما يخالف الآخر فلا بد من بيان هذا. فإن قالوا: لمعنى الصيانة، منعنا هذا الحكم في الاثمان، فاشتراط التقابض هناك عندنا لازالة صفة الدينية، فإن النقود لا تتعين في العقود ما لم تقبض، والدين بالدين حرام شرعا. وإن قالوا: لازالة صفة الدينية، لا يتمكنون من إثبات هذا الحكم في الفرع، فالطعام يتعين في العقد بالتعيين من غير قبض فلا يجدون بدا من الرجوع إلى حرف المسألة، وهو بيان أن اشتراط القبض في الصرف ليس لازالة صفة الدينية بل للصيانة عن معنى الربا، بمنزلة المساواة في القدر. ومن ذلك قولهم في من اشترى أباه ناويا عن كفارة يمينه إنه عتق الاب فلا تتأدى به الكفارة كما لو ورثه، لانا نقول: إن عنيتم أنه لا تتأدى الكفارة بالعتق فنحن نقول في الفرع لا تتأدى الكفارة بالعتق، بل الكفارة تتأدى بفعل منسوب إلى المكفر والعتق وصف في المحل ثابت شرعا، وإن عنيتم الاعتاق فهذا غير موجود في الأصل، لانه لا صنع للوارث في الارث حتى يصير به معتقا، وعند هذا لا بد من الرجوع إلى حرف المسألة وهو أن شراء القريب هل هو إعتاق بطريق أنه متمم علة العتق؟ أم ليس بإعتاق وإنما يحصل العتق به حكما للملك؟ ومن ذلك قولهم في أن الكفارة لا تتأدى بطعام الإباحة إنه نوع تكفير يتأدى بالتمليك (فلا يتأدى بدون التمليك) كالكسوة، لانا نقول: لا تتأدى بدون التمليك مع امتثال الامر (أم بدون امتثال الامر. فإن قال: بي غنية عن بيان هذا، قلنا: لا كذلك، لأن التكفير مأمور به شرعا فلا يتأدى المأمور به إلا بما فيه امتثال الامر. فإن قال: مع امتثال الامر، منعنا هذا الحكم في الأصل وهو إعارة الثوب من المسكين. وإن قال: بدون امتثال الامر) قلنا: هذا مسلم، ولكنا نمنع انعدام امتثال الامر في الفرع، والمأمور به هو الاطعام، وحقيقته التمكين من الطعام، فيضطر إلى الرجوع إلى حرف المسألة وهو أن حقيقة معنى الاطعام أهو التمكين بالتغدية والتعشية أم التمليك؟ ومنه قولهم في القطع والضمان إنهما يجتمعان لانه أخذ مال الغير بغير إذن مالكه فيكون موجبا للضمان كالاخذ غصبا. فإنا نقول: ما معنى هذا الحكم؟ أهو أن يكون موجبا للضمان مع وجود ما ينافيه، أم عند عدم ما ينافيه؟ فإن قال: مع وجود ما ينافيه، منعنا ذلك في الأصل، فإن غصب الباغي مال العادل لا يكون موجبا للضمان، وإن كان آخذا بغير حق وبغير إذن المالك. وإن قال: عند عدم ما ينافيه، قلنا: بموجبه ولكن لا نسلم انعدام ما ينافي الضمان هنا، فإن قطع اليد بسبب السرقة مناف للضمان عندنا أو مسقط له كالابراء، فلا يجد بدا من الرجوع إلى حرف المسألة وهو أن استيفاء القطع هل يكون منافيا للضمان أم لا؟ وأما بيان إضافة الحكم إلى الوصف فهو على ما ذكرنا في القول بموجب العلة، فإن إضافة الحكم إلى العلل الطردية ليس بدليل موجب إضافة الحكم إلى ذلك الوصف، بل لكونه موجودا عند وجوده ومعدوما عند عدمه، وقد بينا أن العدم لا يصلح لاضافة الحكم إليه، وكذلك كل تعليل يكون بنفي وصف أو حكم، فإنا نمنع صلاحية ذلك الوصف لاضافة الحكم إليه، نحو تعليلهم في الاخ أنه لا يعتق على أخيه إذا ملكه لانه ليس بينهما بعضية كابن العم، فإنا نمنع في ابن العم أن يكون انتفاء العتق عند دخوله في ملكه لهذا الوصف، إذ العدم لا يجوز أن يكون موجبا شيئا. وكذلك قولهم في النكاح إنه لا يثبت بشهادة الرجال والنساء لانه ليس بمال كالحدود. فإنا نمنع إضافة هذا الحكم في الحدود إلى هذا الوصف، لانه كون الحد ليس بمال لا يصلح علة لامتناع ثبوته بشهادة النساء مع الرجال. وتعليلهم في الاحصار بالمرض أنه لا يفارقه ما حل به بالاحلال، كالذي ضل الطريق الممانعة في الأصل على هذا الوجه. وتعليلهم في المبتوتة أنها لا تستوجب النفقة ولا يلحقها الطلاق لانها ليست بمنكوحة كالمطلقة قبل الدخول، فإنا نمنع إضافة هذا الحكم في الأصل إلى هذا الوصف، إذ العدم لا يصلح أن يكون موجبا شيئا. وعلى هذا فخرج ما شئت من المسائل.
قال رضي الله عنه: اعلم بأن فساد الوضع في العلل بمنزلة فساد الاداء في الشهادة وأنه مقدم على النقض، لأن الاطراد إنما يطلب بعد صحة العلة، كما أن الشاهد إنما يشتغل بتعديله بعد صحة أداء الشهادة منه، فأما مع فساد في الاداء لا يصار إلى التعليل لكونه غير مفيد. ثم تأثير فساد الوضع أكثر من تأثير النقض، لأن بعد ظهور فساد الوضع لا وجه سوى الانتقال إلى علة أخرى، فأما النقض فهو جحد مجلس يمكن الاحتراز عنه في مجلس آخر. وبيانه فيما قال الشافعي في إسلام أحد الزوجين إن الحادث بينهما اختلاف الدين، فالفرقة به لا تتوقف على قضاء القاضي كالفرقة بردة أحد الزوجين. لانا نقول: هذا الاختلاف إنما حصل بإسلام من أسلم منهما، فأما باعتبار بقاء من بقي على الكفر الحال حال الموافقة فقد كان بينهما الموافقة وهذا على دينه، فعرفنا أن الاختلاف الحادث بإسلام المسلم منهما هو سبب لعصمة الملك وزيادة معنى الصيانة فيه، فالتعليل به لاستحقاق الفرقة يكون فاسدا وضعا في الفرع وإن كان صحيحا في الأصل، من حيث إن الاختلاف هناك حادث بالردة وهي سبب لزوال الملك والعصمة. وكذلك قولهم في المسح بالرأس إنه ركن في الطهارة فيسن تثليثه كغسل الوجه فاسد وضعا، لانه يرد المسح المبني على التخفيف إلى الغسل المبني على المبالغة ليثبت في المسح زيادة غلظ فوق ما في الغسل، فإن في الغسل الاكمال بالتثليث في محل الفرض خاصة، وبهذا التعليل يجعل التثليث في الممسوح مشروعا للاكمال في موضع الفرض وغير موضع الفرض، فإن الفرض يتأدى بالربع وهو يجعل التثليث مسنونا بالاستيعاب. ومن ذلك قولهم في الضرورة إذا حج بنية النفل يقع عن الفرض لأن فرض هذه العبادة يتأدى بمطلق النية، فيتأدى بنية النفل أيضا كالزكاة، فإن التصدق بالنصاب على الفقير بمطلق النية لما كان يتأدى به الزكاة فنية النفل كان كذلك. ولكنا نقول: هذا فاسد وضعا، لانه بهذا الطريق يرد المفسر إلى المجمل، ويحمل المقيد على المطلق، وإنما المجمل يرد إلى المفسر ليصير به معلوم المراد، والمطلق يحمل على المقيد عنده في حادثتين أو في حكمين، وعندنا في حادثة واحدة في حكم واحد، حتى رددنا مطلق القراءة في صوم ثلاثة أيام في اليمين إلى المقيد بالتتابع في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه، وأحد لا يقول المقيد يحمل على المطلق، وهو نظير مطلق النقد ينصرف إلى نقد البلد المعروف لدلالة العرف، فأما المقيد بنقد آخر فإنه لا يحمل على المطلق لينصرف إلى نقد البلد. ومن ذلك قولهم في علة الربا إن صفة الطعم معنى يتعلق به البقاء، يعنون أن بقاء النفس يكون بالطعم فيكون ذلك علة موجبة لزيادة شرطين في العقد على المطعوم عند مقابلة الجنسية. ونحن نقول: هذا فاسد وضعا، لأن البيع في الأصل ما شرع إلا للحاجة ولهذا اختص بالمال الذي بذله لحوائج الناس، وصفة الطعم تكون عبارة عن أعظم أسباب الحاجة إلى ذلك المال، لأن ما يتعلق به البقاء يحتاج إليه كل واحد، وذلك إنما يصلح علة لصحة العقد وتوسعة الامر فيه لا للحرمة، لأن تأثير الحاجة في الإباحة بمنزلة إباحة الميتة عند الضرورة، ولهذا حل لكل واحد من الغانمين تناول مقدار الحاجة من الطعام والعلف الذي يكون في الغنيمة في دار الحرب قبل القسمة بخلاف سائر الاموال، فكانت العلة فاسدة وضعا مع أنه لا تأثير لها في إثبات المماثلة بين العوضين الذي هو شرط جواز العقد بالنص. ومن ذلك قولهم في طول الحرة إن الحر لا يجوز له أن يرق ماءه مع غنيته عنه، كما لو كان تحته حرة، فإن تأثير الحرية في أصل الشرع في استحقاق زيادة النعمة والكرامة وفي إثبات صفة الكمال في الملك، ولهذا حل للحر أربع نسوة بالنكاح ولم يحل للعبد إلا اثنتان، فالتعليل لاثبات الحجر عن العقد بصفة الحرية فيما لا يثبت الحجر عنه بسبب الرق يكون فاسدا في الوضع مخالفا لاصول الشرع. ومن ذلك قولهم فيمن جن في وقت صلاة كامل أو في يوم واحد في الصوم إنه لا يلزمه القضاء، لأن الخطاب عنه ساقط أصلا ووجوب القضاء يبتنى على وجوب الاداء، بمنزلة ما لو جن أكثر من يوم وليلة في الصلاة، أو استوعب الجنون الشهر كله في الصوم. ونحن نقول: هذا فاسد وضعا، لأن الحادث بالجنون عجز عن فهم الخطاب والائتمار بالامر ولا أثر للجنون في إخراجه من أن يكون أهلا للعبادة، لأن ذلك يبتنى على كونه أهلا لثوابها، والاهلية لثواب العبادة بكونه مؤمنا والجنون لا يبطل إيمانه، ولهذا يرث المجنون قريبه المسلم، ولا يفرق بين المجنونة وزوجها المسلم. والدليل عليه أنه لا يبطل إحرامه بسبب الجنون، فدل أنه لا يبطل به إيمانه فكذلك لا يبطل صومه، حتى لو جن بعد الشروع في الصوم بقي صائما، ولا وجه لانكار هذا، فإن بعد صحة الشروع في الصوم لا يشترط قيام الاهلية للبقاء فيها سوى الكف عن اقتضاء الشهوات، والجنون لا ينفي تحقق هذا الفعل، وإذا بقي صائما حتى تأدى منه عرفنا أنه تأدى فرضا كما شرع فيه، ولا يتحقق ذلك إلا مع تقرر سبب الوجوب في حقه. والدليل عليه بقاء حجة الاسلام فرضا له بعد الجنون، وبقاء ما أدى من الصلاة في حالة الافاقة فرضا في حقه، فبهذا التحقيق يتبين أن سبب الوجوب متحقق مع الجنون، والخطاب بالاداء ساقط عنه لعجزه عن فهم الخطاب، وذلك لا ينفي صحة الاداء فرضا، بمنزلة من لم يبلغه الخطاب، فإنه تتأدى منه العبادة بصفة الفرضية كمن أسلم في دار الحرب ولم تبلغه فرضية الخطاب لا يكون مخاطبا بها ومع ذلك إذا أداها كانت فرضا له. وكذلك النائم والمغمى عليه، فإن الخطاب بالاداء ساقط عنهما قبل الانتباه والافاقة ثم كان السبب متقررا في حقهما، فكان التعليل بسقوط فعل الاداء عنه لعجزه عن فهم الخطاب على نفي سبب الوجوب في حقه أصلا، فيكون فاسدا وضعا مخالفا للنص والاجماع، ولأن الخطاب بالاداء يشترط لثبوت التمكن من الائتمار وذلك لا يكون بدون العقل والتمييز، فسقوطه لانعدام شرطه لا يجوز أن يكون دليلا على نفي تقرر السبب، وثبوت الوجوب الذي هو حكم السبب على وجه لا صنع للعبد فيه بل هو أمر شرعي يختص بمحل صالح له وهو الذمة، فإذا ثبت تقرر السبب ثبت صحة الاداء، ووجوب القضاء عند عدم الاداء بشرط أن لا يلحقه الحرج في القضاء، فإن الحرج عذر مسقط بالنص، قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وقال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} فعند تطاول الجنون حقيقة أو حكما بتكرار الفوائت من الصلوات وباستيعاب الجنون الشهر كله أسقطنا القضاء لدفع الحرج وهو عذر مسقط. ومعنى الحرج فيه أنه تتضاعف عليه العبادة المشروعة في وقتها، ولا يشتبه معنى الحرج في الاداء عند تضاعف الواجب، ولهذا أسقطنا بعذر الحيض قضاء الصلوات لانها تبتلى بالحيض في كل شهر عادة، والصلاة يلزمها في اليوم والليلة خمس مرات، فلو أوجبنا القضاء تضاعف الواجب في زمان الطهر، ولا يسقط بالحيض قضاء الصوم، لأن فرضية الصوم في السنة في شهر واحد وأكثر الحيض في ذلك الشهر عشرة، فإيجاب قضاء عشرة أيام في أحد عشر شهرا لا يكون فيه كثير حرج، ولا يؤدي إلى تضاعف الواجب في وقته. وكذلك إذا لزمها صوم شهرين في كفارة القتل فأفطرت بعذر الحيض لم يلزمها الاستقبال، بخلاف ما إذا لزمها صوم عشرة أيام متتابعة بالنذر فأفطرت بعذر الحيض في خلالها يلزمها الاستقبال، لانها قلما تجد شهرين خاليين عن الحيض عادة، ففي التحرز عن الفطر بعذر الحيض في شهرين معنى الحرج ولا يتحقق ذلك في عشرة أيام، ولهذا أسقطنا قضاء العبادات عن الصبي بعد البلوغ، لأن الصبي لا يكون إلا متطاولا عادة فيتحقق معنى الحرج في إيجاب القضاء. ولم يسقط القضاء عن النائم لانه لا يكون متطاولا عادة فلا يلحقه الحرج في إيجاب القضاء بعد الانتباه، وألحقنا الاغماء بالجنون في حكم الصلاة، لأن ذلك يوجد عادة في مقدار ما يتكرر به الفائت من الصلاة، وألحقناه بالنوم في حكم الصوم لانه لا يتطاول عادة بقدر ما يثبت به حكم تطاول الجنون في حكم الصوم وهو أن يستوعب الشهر كله. ومن ذلك قولهم في النقود إنها تتعين في عقود المعاوضات لانها تتعين في التبرعات كالهبة والصدقة فتتعين في المعاوضات بمنزلة الحنطة وسائر السلع، لانا نقول: هذا التعليل فاسد وضعا، فإن التبرعات مشروعة في الأصل للايثار بالعين لا لايجاب شئ منها في الذمة، والمعاوضات لايجاب البدل بها في الذمة ابتداء، ألا ترى أن البيع في العرف الظاهر إنما يكون بثمن يجب في الذمة ابتداء، والنكاح يكون بصداق يجب في الذمة ابتداء، فكان اعتبار ما هو مشروع للالزام في الذمة ابتداء إنما هو مشروع لنقل الملك واليد في العين من شخص إلى شخص في حكم التعيين فاسدا وضعا، ألا ترى أن البيع لما كان لنقل الملك واليد في عين المعقود عليه لم يجز أن يكون موجبا المبيع في الذمة ابتداء لا رخصة بسبب الحاجة إليه في السلم، وذلك حكم ثابت بخلاف القياس، ففيما يكون البيع موجبا له في الذمة ابتداء وهو الثمن لا يجوز أن يجعل موجبه نقل الملك واليد فيه من شخص إلى شخص بالتعيين، وقد عرفنا أنه لا يستحق النقد بالعقد الذي هو معاوضة إلا ثمنا، ومع التعيين لا يمكن إثبات موجبه، فظهر أن هذا التعيين لم يصادف محله وأنه بمنزلة هبة المال دينا في ذمته من إنسان فإنه لا يكون صحيحا، لأن موجب الهبة نقل الملك واليد في العين، فلا يجوز أن يجعل موجبه الايجاب في الذمة ابتداء بالشك، وما كان تعيين النقد في عقد المعاوضة إلا نظير الايجاب في الذمة ابتداء بعقد الهبة، فكما أن ذلك ينافي صحة العقد لأن موجبه نقل الملك في العين واليد، فبدون موجبه لا يكون صحيحا، فهنا لو تعين بطل العقد، لانه ينعدم ما هو موجب هذا العقد في الثمن وهو الالزام في الذمة ابتداء، وفي الحنطة كذلك، فإنه متى كان ثمنا كان واجبا في الذمة ابتداء، فأما بعد التعيين يصير مبيعا فيكون موجب العقد فيه تحويل ملك العين واليد من شخص إلى شخص، والسلع لا تكون إلا مبيعة، ولهذا لا يجوز ترك التعيين فيها في غير موضع الرخصة وهو السلم الذي هو ثابت بخلاف القياس، لانه لو صح ذلك كان ثابتا بالعقد في الذمة ابتداء وهو خلاف موجب العقد فيها. ومن ذلك قولهم في المشتري إذا أفلس في الثمن قبل النقد إنه يثبت للبائع حق نقض البيع واسترداد سلعته، لأن الثمن أحد العوضين في البيع، فالعجز عن تسليمه بحكم العقد يثبت للمتملك حق فسخ العقد دفعا للضرر عن نفسه، كالعوض الآخر وهو المبيع إذا كان عينا فعجز البائع عن تسليمه بالاباق أو كان دينا كالسلم، فعجز البائع عن تسليمه بانقطاعه عن أيدي الناس. لانا نقول: هذا التعليل فاسد وضعا، فإن موجب البيع في المبيع استحقاق ملك العين واليد، ولهذا لا نجوز بيع العين قبل وجود الملك واليد للبائع في المبيع، لانه لا يتحقق منه اكتساب سبب استحقاق ذلك لغيره إذا لم يكن مستحقا له، وكذلك في المبيع الدين يشترط قدرته على التسليم باكتسابه حكما بكونه موجودا في العالم وباشتراط الاجل الذي هو مؤثر في قدرته على التسليم باكتسابه في المدة أو إدراك غلاته، فإنه موجب بالعقد في الثمن التزامه في الذمة ابتداء، والشرط فيه ذمة صالحة للالتزام فيها، ولهذا لا يشترط قيام ملك المشتري في الثمن وقدرته على تسليمه عند العقد حقيقة وحكما. فتبين بهذا أن بسبب العجز عن تسليم المعقود عليه يتمكن خلل فيما هو موجب العقد فيه (وهو) مستحق به، وبسبب العجز عن تسليم الثمن لا يتمكن الخلل فيما هو موجب العقد فيه وهو التزام (الثمن) في الذمة، وأي فساد أبين من فساد قول من يقول إذا ثبت حق الفسخ عند تمكن الخلل في موجب العقد ينبغي أن يثبت حق الفسخ بدون تمكن الخلل في موجب العقد. والدليل على ما قلنا جواز إسقاط حق قبض الثمن بالابراء أصلا وعدم جواز ذلك في المبيع المعين قبل القبض، حتى إنه إذا وهبه من البائع وقبله كان فسخا للبيع بينهما. ولا يدخل على ما ذكرنا الكتابة، فإن عجز المكاتب عن أداء بدل الكتابة بعد محل الاجل تمكن المولى من الفسخ، والبدل هناك معقود به يثبت في الذمة ابتداء ولا يتمكن الخلل فيما هو موجب العقد فيه بسبب العجز عن تسليمه، لأن موجب العقد لزوم بدل الكتابة على أن يصير ملكا للمولى بعد حل الاجل بالاداء، فإن المولى لا يستوجب على عبده دينا، ولهذا لا تجب الزكاة في بدل الكتابة ولا تصح الكفالة به. فعرفنا أن الملك هناك لا يسبق الاداء، فإذا عجز عن الاداء فقد تمكن الخلل في الملك الذي هو موجب العقد فيه، فأما هنا موجب العقد ملك الثمن دينا في الذمة ابتداء وذلك قد تم بنفس العقد، وبسبب الافلاس لا يتمكن الخلل فيما هو موجب العقد، ولهذا لو مات مفلسا لا يتمكن البائع من فسخ العقد أيضا، وإن لم تبق صلاحية المحل وهو الذمة بعد موته مفلسا، لأن بنفس العقد قد تم موجب العقد فيه، فما كان فواته بعد ذلك إلا بمنزلة هلاك المبيع بعد القبض، وذلك لا يوجب انفساخ العقد ولا يثبت للمشتري به حق الفسخ فهذا مثله. وهذه المسائل فقههم فيها بطريق إحالة العلة أظهر وأنور للقلوب، وقد بينا فساد الوضع في عللهم فيها ليتبين لك أن أكثر ما يعللون به في المسائل بهذا الطريق فاسد إذا تأملت فيه، وأن أعدل الطرق في تصحيح العلة ما كان عليه السلف من اعتبار التأثير.
قد بينا تفسير النقض وحده فيما مضى، وهذا الفصل لبيان الدفع بالمناقضة يلجئ أصحاب الطرد إلى الاحتجاج بالتأثير. وبيانه فيما علل به الشافعي رحمه الله في اشتراط النية في الوضوء أن التيمم والوضوء طهارتان كيف يفترقان، لأن عند إطلاق إنكار التفرقة بينهما ينتقض بكل وجه يفترقان فيه من اشتراط أصل الفعل في التيمم دون الوضوء، ومن اشتراط الاعضاء الاربعة في الوضوء دون التيمم، ومن صفة كل واحد منهما، وغير ذلك مما يفترقان فيه. فإن قال: عنيت إثبات التسوية بينهما في اشتراط النية خاصة بهذا الوصف، قلنا: هو باطل بغسل النجاسة عن الثوب أو البدن فإنه طهارة ثم لا يشترط فيه النية، فيضطر عند ذلك إلى الرجوع إلى التأثير، وهو أن كل واحد منهما طهارة حكمية غير معقولة المعنى بل ثابتة شرعا بطريق التعبد، إذ ليس على الاعضاء شئ يزول بهذه الطهارة والعبادة لا تتأدى بدون النية، بخلاف غسل النجاسة فإنه معقول بما فيه من إزالة عين النجاسة عن الثوب أو البدن. ونحن نقول: الماء بطبعه مطهر كما أنه بطبعه مزيل فإنه خلق لذلك، قال الله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} والطهور الطاهر بنفسه المطهر لغيره يعمل في التطهير من غير النية، كالنار لما كانت محرقة بطبعها تعمل في الاحراق بغير النية، ثم الحدث لا يختص بالاعضاء بل يثبت حكمه في جميع البدن كالجنابة والحيض والنفاس، لانه لو اختص بموضع كان أولى المواضع به مخرج الحدث ولا يثبت لزوم التطهير في ذلك الموضع، فعرفنا أنه ثابت في جميع البدن إلا أن الشرع أقام غسل الاعضاء التي هي ظاهرة، وهي بمنزلة الامهات في تطهيرها بالماء، مقام جميع البدن تيسيرا على العباد، لأن إقامة الغسل فيها تيسير على وجه لا يتيسر في سائر أجزاء البدن، وسبب الحدث تعم به البلوى ويعتاد تكراره في كل وقت، وبقي حكم تطهير جميع البدن بالغسل في الجنابة والحيض والنفاس على أصل القياس، فظهر أن ما لا يعقل فيه المعنى بل هو ثابت شرعا إقامة المحال المخصوصة مقام جميع البدن لا فعل هو استعمال الماء في حصول الطهارة به، وكلامنا في اشتراط النية في الفعل الذي يحصل به الطهارة دون المحل، وفي هذه الطهارة من الحدث والجنابة بمنزلة غسل النجاسة. وكذلك المسح بالرأس فإنه قائم مقام فعل الغسل الذي هو تطهير في ذلك العضو بمعنى التيسير، بخلاف التيمم فإنه في الأصل تلويث وتغبير وهو ضد التطهير، ولهذا لا يرتفع به الحدث، فعرفنا أنه جعل طهارة لضرورة الحاجة إلى أداء الصلاة فإنما يكون طهارة بشرط إرادة الصلاة، وهذا الشرط لا يتحقق إلا بالنية، وما يقول إن في الوضوء والاغتسال معنى العبادة فشرط العبادة النية فهو مسلم عندنا، ومتى لم توجد النية لا يكون وضوءه عبادة، ولكن الطهارة التي هي شرط صحة أداء الصلاة ما يكون مزيلا للحدث لا ما يكون عبادة، واستعمال الماء في محل الطهارة بدون النية مزيل للحدث، فبهذا التقرير تبين أن الوضوء نوعان: نوع هو عبادة وهو لا يحصل بدون النية، ونوع هو مزيل للحدث وهو حاصل بغير النية بمنزلة الغسل الذي هو مزيل للنجاسة وهو مثبت شرط جواز الصلاة. ومن ذلك قولهم: الطلاق ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال كالحدود. فإن مطلق هذه العبارة تنتقض بالبكارة والرضاع فلا بد من الرجوع إلى التأثير وهو أن شهادة النساء مع الرجال ليس بحجة أصلية، ولكنها حجة ضرورة يجوز العمل بها شرعا فيما تكثر به البلوى والمعاملة فيه بين الناس في كل وقت، وذلك الاموال وما يتبع الاموال، ففيما لا يكثر فيه البلوى لا تجعل فيه شهادة النساء حجة، والنكاح والطلاق والوكالة وما أشبه ذلك لا يوجد فيها من عموم البلوى مثل ما يكون في الاموال. ونحن نقول: إنها حجة أصلية بمنزلة شهادة الرجال، ولكن فيها ضرب شبهة باعتبار نقصان عقل النساء لتوهم الضلال والنسيان لكثرة غفلتهن، ولهذا ضمت إحدى المرأتين إلى الاخرى ليكونا كرجل واحد في الشهادة، فإنما لا يثبت بهذه الشهادة ما يندرئ بالشبهات كالحدود، فأما النكاح يثبت مع الشبهات، ألا ترى أنه أسرع ثبوتا من المال حتى يصح من الهازل والمكره والمخطئ عندنا، وكذلك الطلاق والوكالة فإنها تثبت مع الجهالة فتحتمل التعليق بالشرط، فكانت أقرب إلى الثبوت مع الشبهة من الاموال بخلاف الحدود. ومن ذلك قولهم: الغصب عدوان محض فلا يكون سببا للملك في العين كالقتل، لأن هذا ينتقض باستيلاد الاب جارية ابنه واستيلاد أحد الشريكين الجارية المشتركة، فإنه عدوان من حيث إنه حرام ثم كان سببا للملك، فيضطر المعلل عند إيراد هذا النقض إلى الرجوع إلى التأثير، وهو أن الفعل إنما يتمخض عدوانا إذا خلا عن نوع شبهة، واستيلاد أحد الشريكين لم يخل عن ذلك، فإنه باعتبار جانب ملكه يتمكن شبهة في هذا الفعل، وكذلك ما للاب من الحق في مال ولده يمكن شبهة. فنقول عند ذلك: الغصب الذي هو عدوان محض لا يكون سببا لملك العين عندنا ولكن ثبوت الملك في بدل العين وهو حكم مشروع غير موصوف بأنه عدوان هو الذي ثبت به الملك في العين شرطا له على ما قررنا. ومن ذلك قوله في المنافع: إن المتلف مال فيكون مضمونا على المتلف ضمانا يستوفى كالعين، لأن ظاهر هذا ينتقض بما إذا كان المتلف معسرا لا يجد شيئا. فإن قال هناك الضمان واجب عندي ولكن يتأخر الاستيفاء لعجز من عليه عن المثل الذي يؤدي به الضمان. قلنا: هكذا نقول في الفرع، فإن عندنا يتأخر استيفاء الضمان إلى الآخرة للعجز عن المثل الذي يوفي به هذا الضمان، فإن ضمان العدوان يتقدر بالمثل بالنص وليس للمنفعة مثل في صفة المالية يمكن استيفاؤها في الدنيا، وعند ذلك يتبين فقه المسألة أن المانع من إلزام الضمان عندنا انعدام المماثلة لظهور التفاوت بين المنافع والاعيان في صفة المالية، وقد تقدم بيان ذلك، فيقرر بما ذكرنا أن الاعتماد على الاطراد من غير طلب التأثير ضعيف في باب الاحتجاج، وأنه بمنزلة الاحتجاج بلا دليل على ما أوضحنا فيه السبيل.
قال رضي الله عنه: الانتقال على أربعة أوجه: انتقال من علة إلى علة أخرى لاثبات الأولى بها، وانتقال من حكم إلى حكم لاثباته بالعلة الأولى، وانتقال من حكم إلى حكم (آخر) لاثباته بعلة أخرى. وهذه الاوجه الثلاثة مستقيمة على طريق النظر لا تعد من الانقطاع. أما الأول فلان المعلل إنما التزم إثبات الحكم بما ذكره من العلة ويمكنه من ذلك بإثبات العلة، فما دام سعيه فيما يرجع إلى إثبات تلك العلة يكون ذلك وفاء منه بما التزم لا أن يكون إعراضا عن ذلك واشتغالا بشئ آخر. وبيان هذا فيما إذا عللنا في نفي الضمان عن الصبي المستهلك للوديعة بأنه استهلاك عن تسليط صحيح ثم نشتغل بإثبات هذه العلة، فإنه يكون هذا انتقالا من علة إلى أخرى لاثبات العلة الأولى بها، ولا يشك أحد في أن ذلك مستقيم على طريق النظر، وعلى هذا إذا اشتغل بإثبات الأصل الذي يتفرع منه موضع الخلاف حتى يرتفع الخلاف بإثبات الأصل فإن ذلك حسن صحيح، نحو ما إذا وقع الاختلاف في الجهر بالتسمية، فإذا قال المعلل: هذا يبتنى على أصل وهو أن التسمية ليست بآية من الفاتحة ثم يشتغل بإثبات ذلك الأصل حتى يثبت الفرع بثبوت الأصل يكون مستقيما. وكذلك إذا علل بقياس فقال خصمه: القياس عندي ليس بحجة، فاشتغل بإثبات كونه حجة بقول صحابي، فيقول خصمه: قول الواحد من الصحابة عندي ليس بحجة، فاشتغل بإثبات كونه حجة بخبر الواحد، فيقول خصمه: خبر الواحد عندي ليس بحجة، فيحتج بكتاب على أن خبر الواحد حجة، فإنه يكون طريقا مستقيما، ويكون هذا كله سعيا في إثبات ما رام إثباته في الابتداء. وأما الثاني فلان الانتقال من حكم إلى حكم إنما يكون عند موافقة الخصم في الحكم الأول، وما كان مقصود المعلل إلا طلب الموافقة في ذلك الحكم، فإذا وافقه خصمه فيه فقد تم مقصوده، ثم الانتقال بعده إلى حكم آخر ليثبته بالعلة الأولى يدل على قوة تلك العلة في إجرائها في المعلولات وعلى حذاقة المعلل في إثبات الحكم بالعلة، وذلك نحو ما إذا عللنا في تحرير المكاتب عن كفارة اليمين، لأن الكتابة عقد معاوضة يحتمل الفسخ فلا تخرج الرقبة من أن تكون محلا للصرف إلى الكفارة كالبيع، فإذا قال الخصم: عندي عقد الكتابة لا يخرج الرقبة من الصلاحية لذلك، ولكن نقصان الرق هو الذي يخرج الرقبة من ذلك فنقول: بهذه العلة يجب أن لا يتمكن نقصان في الرق لأن ما يمكن نقصانا في الرق لا يكون فيه احتمال الفسخ، فهذا إثبات الحكم الثاني بالعلة الأولى أيضا وهو نهاية في الحذاقة. وكذلك إن تعذر إثبات الحكم الثاني بالعلة الأولى فأراد إثباته بالعلة بعلة أخرى، لانه ما ضمن بتعليله إثبات جميع الاحكام بالعلة الأولى وإنما ضمن إثبات الحكم الذي زعم أن خصمه ينازعه فيه، فإذا أظهر الخصم الموافقة فيه واحتاج إلى إثبات حكم آخر يكون له أن يثبت ذلك بعلة أخرى ولا يكون هذا انقطاعا منه. فأما الوجه الرابع وهو الانتقال من علة إلى علة أخرى لاثبات الحكم الأول، فمن أهل النظر من صحح ذلك أيضا ولم يجعله انقطاعا، استدلالا بقصة الخليل عليه السلام حين حاج اللعين بقوله تعالى: {ربي الذي يحيي ويميت} فلما قال اللعين: {أنا أحيي وأميت} حاجه بقوله تعالى: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} وكان ذلك (منه) انتقالا من حجة إلى حجة لاثبات شئ واحد، وقد ذكر الله تعالى ذلك عنه على وجه المدح له به، فعرفنا أنه مستقيم. وكذلك المدعي إذا أقام شاهدين فعورض بجرح فيهما كان له أن يقيم شاهدين آخرين لاثبات حقه. والمذهب الصحيح عند عامة الفقهاء أن هذا النوع من الانقطاع، لانه رام إثبات الحكم بالعلة الأولى، فانتقاله عنها إلى علة أخرى قبل أن يثبت الحكم بالعلة الأولى لا يكون إلا لعجز عن إثباته بالعلة الأولى، وهذا انقطاع على ما نبينه في فصله. ثم مجالس النظر للابانة، فلو جوزنا الانتقال فيها من علة إلى علة أدى ذلك إلى أن يتطاول المجلس ولا يحصل ما هو المقصود وهو الابانة، وكان هذا نظير نقض يتوجه على العلة، فإنه لا يشتغل بالاحتراز عنه، ولكن إذا تعذر دفعه بما ذكره المعلل في الابتداء يظهر به انقطاعه في ذلك المجلس فهذا مثله. فأما قصة الخليل عليه الصلاة والسلام فهو ما انتقل قبل ظهور الحجة الأولى له، ولكن الأولى كانت حجة ظاهرة لم يطعن خصمه فيها إنما ادعى دعوى مبتدأة بقوله: {أنا أحيي وأميت} وكل ما صنعه معلوم الفساد عند المتأملين إلا أنه كان في القوم من يتبع الظاهر ولا يتأمل في حقيقة المعنى فخاف الخليل عليه الصلاة والسلام الاشتباه على أمثالهم فضم إلى الحجة الأولى حجة ظاهرة لا يكاد يقع فيها الاشتباه فبهت الذي كفر. وهذا مستحسن في طريق النظر لا يشك فيه، فإن المعلل إذا أثبت علته يقول: والذي يوضح ما ذكرت. فيأتي بكلام آخر هو أوضح من الأول في إثبات ما رام إثباته، وهذا لأن حجج الشرع أنوار فضم حجة إلى حجة كضم سراج إلى سراج، وذلك لا يكون دليلا على ضعف أحدهما أو بطلان أثره فكذلك ضم حجة إلى حجة، وإنما جعلنا هذا انقطاعا في موضع يكون الانتقال للعجز عن إثبات الحكم بالعلة الأولى. ثم كل هذه التصرفات للمجيب لا للسائل، فإن المجيب بان والسائل هادم مانع، والحاجة إلى هذه الانتقالات للباني المثبت لا للمانع الدافع.
ووجوه الانقطاع أربعة: أحدها - وهو أظهرها - السكوت على ما أخبر الله به عن اللعين عند إظهار الخليل صلى الله عليه وسلم حجته بقوله: {فبهت الذي كفر}. والثاني: جحد ما يعلم ضرورة بطريق المشاهدة، لأن سعي المعلل ليجعل الغائب كالشاهد، والعلم بالمشاهدات يثبت ضرورة، فإذا اشتغل الخصم بجحد مثله علم أنه ما حمله على ذلك إلا عجزه عن دفع علة المعلل، فكان انقطاعا. والثالث: المنع بعد التسليم، فإنه يعلم أنه لا شئ يحمله على المنع بعد التسليم إلا عجزه عن الدفع لما استدل به خصمه. ولا يقال يحتمل أن يكون تسليمه عن سهو أو غفلة، لأن عند ذلك يبين وجه الدفع بطريق التسليم ثم يبنى عليه استدراك ما سها فيه، فأما أن يرجع عن التسليم إلى المنع من غير بيان الدفع بطريق التسليم فذلك لا يكون إلا للعجز. والرابع: عجز المعلل عن تصحيح العلة التي قصد إثبات الحكم بها حتى انتقل منها إلى علة أخرى لاثبات الحكم، فإن ذلك انقطاع، لأن حكم الانقطاع مقتضب من لفظه، وهو قصور المرء عن بلوغ مغزاه، وعجزه عن إظهار مراده ومبتغاه. وهذا العجز نظير العجز ابتداء عن إقامة الحجة على الحكم الذي ادعاه، والله أعلم. باب: أقسام الاحكام وأسبابها وعللها وشروطها وعلاماتها اعلم أن جملة ما ثبت بالحجج الشرعية الموجبة للعلم بما تقدم ذكرها قسمان: الاحكام المشروعة وما يتعلق بها المشروعات. فنبدأ ببيان قسم الاحكام فنقول: هذه الاحكام أربعة: حقوق الله خالصا، وحقوق العباد خالصا أيضا، وما يشتمل على الحقين وحق الله فيه أغلب، وما يشتمل عليهما وحق العباد فيه أغلب. فأما حقوق الله خالصة فهي أنواع ثمانية: عبادات محضة، وعقوبات محضة، وعقوبة قاصرة، ودائرة بين العبادة والعقوبة، وعبادة فيها معنى المئونة، ومئونة فيها معنى العبادة، ومئونة فيها معنى العقوبة، وما يكون قائما بنفسه وهي على ثلاثة أوجه: ما يكون منه أصلا، وما يكون زائدا على الأصل، وما يكون ملحقا به. فأما العبادات المحضة فرأسها الايمان بالله تعالى، والأصل فيه التصديق بالقلب، فإنه لا يسقط بعذر ما من إكراه أو غيره، وتبديله بغيره يوجب الكفر على كل حال، والاقرار باللسان ركن فيه مع التصديق بالقلب في أحكام الدنيا والآخرة جميعا، وقد يصير الاقرار أصلا في أحكام الدنيا بمنزلة التصديق، حتى إذا أكره على الاسلام فأسلم باللسان فهو مسلم في أحكام الدنيا لوجود ركن الاقرار، وقيام السيف على رأسه دليل على أنه غير مصدق بالقلب، ولهذا لا يحكم بالردة إذا أكره المرء عليها، لأن التكلم باللسان هناك دليل محض على ما في الضمير من غير أن يجعل أصلا بنفسه، والاقرار باللسان وإن كان دليلا على التصديق فعند الاكراه يجعل أصلا بنفسه يثبت به الايمان في أحكام الدنيا بمنزلة التصديق، ويستوي إن أكره الحربي على ذلك أو الذمي عندنا لهذا المعنى. وعند الشافعي متى كان الاكراه بحق بأن كان المكره حربيا لا أمان له كذلك الجواب، ومتى كان بغير حق بأن أكره الذمي عليه فإنه لا يصير مسلما به. ثم الصلاة بعد الايمان من أقوى الاركان، فإنها عماد الدين ما خلت عنها شريعة المرسلين. وهي تشمل الخدمة بظاهر البدن وباطنه، ولكنها صارت قربة بواسطة البيت الذي عظمه الله وأمرنا بتعظيمه لاضافته إلى نفسه فقال: {أن طهرا بيتي للطائفين} الآية، حتى لا تتأدى هذه القربة إلا باستقبال القبلة في حالة الامكان، وفي ذلك من معنى التعظيم ما أشار الله تعالى إليه في قوله: {فأينما تولوا فثم وجه الله} ليعلم به أن المطلوب وجه الله، ووجه الله لا جهة له، فجعل الشرع استقبال جهة الكعبة قائما مقام ما هو المطلوب لاداء هذه القربة. وأصل الايمان فيه تقرب إلى الله تعالى بلا واسطة، وفي الصلاة تقرب بواسطة البيت فكانت من شرائع الايمان لا من نفس الايمان. ثم الزكاة التي تؤدي بأحد نوعي النعمة وهو المال، فالنعم الدنيوية نعمتان: نعمة البدن، ونعمة المال، والعبادات مشروعة لاظهار شكر النعمة بها في الدنيا ونيل الثواب في الآخرة، فكما أن شكر نعمة البدن بعبادة تؤدي بجميع البدن وهي الصلاة، فشكر نعمة المال بعبادة مؤداة بجنس تلك النعمة، وإنما صار الاداء قربة بواسطة المصروف إليه وهو المحتاج، على معنى أن المؤدي يجعل ذلك المال خالصا لله تعالى في ضمن صرفه إلى المحتاج ليكون كفاية له من الله تعالى، لهذا كان دون الصلاة بدرجة، فإنها قربة بواسطة البيت الذي ليس من أهل الاستحقاق بذاته، وهذا قربة بواسطة الفقير الذي هو من أهل أن يكون مستحقا بنفسه لحاجته. ثم الصوم الذي هو من جنس المشروع شكرا لنعمة البدن، ولكنه دون الصلاة من حيث إنه لا يشتمل على أعمال متفرقة على أعضاء البدن، بل يتأدى بركن واحد وهو الكف عن اقتضاء الشهوتين: شهوة البطن وشهوة الفرج، فإنما صارت قربة بواسطة النفس المحتاجة إلى نيل اللذات والشهوات، فهي أمارة بالسوء كما وصفها الله تعالى به، ففي قهرها بالكف عن اقتضاء شهواتها لابتغاء مرضاة الله تعالى معنى القربة، وبالتأمل في هذه الوسيلة يتبين أنه دون ما سبق. ثم الحج الذي هو زيارة البيت المعظم، وعبادة بطريق الهجرة يشتمل على أركان تختص بأوقات وأمكنة، وفيها معنى القربة باعتبار معنى التعظيم لتلك الاوقات والامكنة. فأما العمرة فإنها سنة قوية باعتبار أن أركانها من جنس أركان الحج، وما بينا من الوسيلة لا يوجب عددا من القربة ولهذا لا تتكرر فرضية الحج في العمر، فعرفنا أن العمرة زيارة، وهي سنة قوية فعلها رسول الله عليه السلام وأمر بها. والجهاد قربة باعتبار إعلاء كلمة الله وإعزاز الدين، ولما فيه من توهين المشركين ودفع شرهم عن المسلمين، ولهذا سماه رسول الله عليه السلام سنام الدين. وكان أصله فرضا لأن إعزاز الدين فرض ولكنه فرض كفاية، لأن المقصود وهو كسر شوكة المشركين ودفع شرهم وفتنتهم يحصل ببعض المسلمين فإذا قام به البعض سقط عن الباقين. والاعتكاف قربة زائدة لما فيها من تعظيم المكان المعظم بالمقام فيه وهو المسجد، ولما في شرطها من منع النفس عن اقتضاء الشهوات، يعني الصوم. والمقصود بها تكثير الصلاة إما حقيقة أو حكما بانتظار الصلاة في مكانها على صفة الاستعداد لها بالطهارة. وأما صدقة الفطر فهي عبادة فيها معنى المئونة، ولهذا لا تتأدى بدون نية العبادة بحال، ولا تجب إلا على المالك لما يؤدي به حقيقة بمنزلة الزكاة، ولكن لا يشترط لوجوبها صفة كمال الملك والولاية حتى تجب على الصبي في ماله بخلاف الزكاة، وتجب على الغير بسبب الغير، فعرفنا أن فيها معنى المئونة كالنفقة. وأما العشر فهو مئونة فيه معنى العبادة. والخراج مئونة فيه معنى العقوبة من حيث إن وجوب كل واحد منهما باعتبار حفظ الاراضي وإنزالها، إلا أن في الخراج معنى الذل على ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى آلة الزراعة في دار قوم فقال: ما دخل هذا في دار قوم إلا ذلوا وكأن ذلك لما في الاشتغال بالزراعة من الاعراض عن الجهاد، وإنما يلتزم الخراج من يشتغل بعمل الزراعة، ولهذا لا يبتدأ المسلم بالخراج في أرضه ويبقى عليه الخراج بعد إسلامه، لانه يتردد بين المئونة والعقوبة فلا يمكن إيجابه على المسلم ابتداء لمعنى المئونة لمعارضة معنى العقوبة إياه، ولا يمكن إسقاطه بعد الوجوب إذا أسلم باعتبار معنى العقوبة لمعارضة معنى المئونة إياه. وأما العشر ففيه معنى العبادة على معنى أنه مصروف إلى الفقير كالزكاة، وقد بينا أن بواسطة هذا المصروف يثبت فيه معنى القربة وإن كان وجوبه باعتبار مئونة الارض، ولهذا يجب في الاراضي النامية من غير اشتراط المالك لها نحو الاراضي الموقوفة وأرض المكاتب، ولهذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه: إذا تحولت الارض العشرية إلى ملك الذمي تصير خراجية، لأن فيها معنى العبادة والكافر ليس من أهل العبادة أصلا، وكل واحد منهما واجب بطريق المئونة فعند تعذر أحدهما يتعين الآخر، والخراج يبقى وظيفة الارض بعد انتقال الملك فيها إلى المسلم، لأن المسلم من أهل أن توجب عليه المئونة التي فيها معنى العقوبة، فإنه بعد الاسلام أهل لالزام العقوبة عند تقرر سببها منه، والكافر ليس بأهل العبادة أصلا، فالاهلية للعبادة تبتنى على الاهلية لثوابها. وقال أبو يوسف رحمه الله: يتضاعف العشر على الكافر اعتبارا بالصدقات المضاعفة في حق بني تغلب. وأبى هذا أبو حنيفة رحمه الله، لأن التضعيف حكم ثابت بخلاف القياس بإجماع الصحابة في قوم بأعيانهم، وغيرهم من الكفار ليسوا بمنزلتهم، فأولئك لا تؤخذ منهم الجزية، وغيرهم من الكفار تؤخذ منهم الجزية. ومحمد رحمه الله يقول: تبقى عشرية كما كانت، لأن البقاء باعتبار معنى المئونة كالخراج في حق المسلم. ثم عنه روايتان في مصرف هذا العشر: في إحداهما يصرف إلى المقاتلة كالخراج لاعتبار معنى المئونة الخالصة (وفي الاخرى تكون مصروفة إلى الفقراء والمساكين، لانها لما بقيت باعتبار معنى المئونة تبقى) على ما كانت مصروفة إلى من كانت مصروفة إليه قبل هذا كالخراج في حق المسلم. وأما الحق القائم بنفسه فنحو خمس الغنائم والمعادن والركاز، فإنه لا يكون واجبا ابتداء على أحد، ولكن باعتبار الأصل الغنيمة كلها لله تعالى، كما قال تعالى: {قل الانفال لله} وهذا لانها أصيبت لاعلاء كلمة الله تعالى، إلا أن الله تعالى جعل أربعة أخماسها للغانمين على سبيل المنة عليهم، فبقي الخمس له كما كان في الأصل مصروفا إلى من أمر بالصرف إليه. وكذلك خمس المعادن فإن الموجود ما كان لاحد فيه حق، فجعل الشرع أربعة أخماسه للواجد وبقي الخمس لله مصروفا إلى من أمر بالصرف إليه، ولهذا جاز وضع خمس الغنيمة فيمن هو من جملة الغانمين عند حاجتهم، وفي آبائهم وأولادهم، وجاز وضع خمس المعدن في الواجد عند الحاجة، فعرفنا أنه ليس بواجب عليه بل هو حق الله تعالى قائم كما كان، ولهذا جاز صرفه إلى بني هاشم، لأن باعتبار هذا المعنى لا يتمكن فيه معنى الاوساخ بخلاف الصدقات، وأمر الله بصرف البعض منه إلى ذوي القربى، وكان ذلك عندنا باعتبار النصرة المخصوصة التي تحققت منهم بالانضمام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال ما هجره الناس، ودخول الشعب معه لمؤانسته والقيام بنصرته، فإن ذلك كان فعلا من جنس القربة، فيجوز أن يتعلق به استحقاق ما هو صلة ومنة من الله تعالى كاستحقاق أربعة الاخماس، فأما القرابة خلقة لا تستحق بذاتها مال الله تعالى، ثم صيانة قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استحقاق عوض مالي بمقابلتها أولى من إثبات الاستحقاق بسبب القرابة. ولا يجوز جعل القرابة قرينة للنصرة أو النصرة قرينة للقرابة، لما بينا أن الترجيح إنما يكون بما لا يصلح علة بانفرادها للاستحقاق دون ما يصلح لذلك. وعلى هذا الأصل استحقاق المصاب من الغنيمة وتمامه يكون بالاحراز بالدار بعد الاخذ. والمسائل على هذا الأصل يكثر تعدادها إذا تأملت، وذلك معلوم فيما أملينا من فروع الفقه. فأما العقوبات المحضة فهي الحدود التي شرعت زواجر عن ارتكاب أسبابها المحظورة حقا لله تعالى خالصا، نحو حد الزنا والسرقة وشرب الخمر. أما العقوبة القاصرة فنحو حرمان الميراث بسبب مباشرة القتل المحظور، فإنها عقوبة ولكنها قاصرة حتى تثبت في حق الخاطئ والنائم إذا انقلب على مورثه، ولا تثبت في حق الصبي والمجنون عندنا أصلا، لانها عقوبة والاهلية للعقوبة لا تسبق الخطاب، بخلاف الخاطئ إذا كان بالغا عاقلا، فالبالغ العاقل مخاطب ولكنه بسبب الخطأ يعذر مع نوع تقصير منه في التحرز، والصبي لا يوصف بالتقصير الكامل والناقص فلا يثبت في حقه ما يكون عقوبة قاصرة كانت أو كاملة، ولهذا لا تثبت في حق القائد والسائق والشاهد إذا رجع عن شهادته، وحافر البئر وواضع الحجر، لانه جزاء على مباشرة القتل المحظور، والموجود من هؤلاء تسبب لا مباشرة. وعند الشافعي هذا ضمان يتعلق بهذا الفعل بمنزلة الدية، فيثبت في حق المسبب والمباشر جميعا وفي حق الصبي والبالغ، وهذا غلط بين، لأن الضمان ما يجب جبرانا لحق المتلف عليه ويسقط باعتبار رضاه أو عفو من يقوم مقامه، وحرمان الميراث ليس من ذلك في شئ. فأما الدائر بين العبادة والعقوبة كالكفارات، لانها ما وجبت إلا جزاء على أسباب توجد من العباد، فسميت كفارة باعتبار أنها ستارة للذنب، فمن هذا الوجه عقوبة فإن العقوبة هي التي تجب جزاء على ارتكاب المحظور الذي يستحق المأثم به، وهي عبادة من حيث إنها تجب بطريق الفتوى ويؤمر من عليه بالاداء بنفسه من غير أن تقام عليه كرها، والشرع ما فوض إقامة شئ من العقوبات إلى المرء على نفسه، وتتأدى بما هو محض العبادة. فعرفنا أنها دائرة بين العبادة والعقوبة، وأن سببها دائر بين الحظر والإباحة كاليمين المعقودة على أمر في المستقبل والقتل بصفة الخطأ، ولهذا لم نجعل الغموس والعمد المحض سببا لوجوب الكفارة. وعند الشافعي رحمه الله هذه الكفارات وجوبها بطريق الضمان، وقد بينا أن هذا غلط، ووجوب الضمان في الأصل بطريق الجبران وذلك لا يتحقق فيما يخلص لله تعالى، لأن الله تعالى يتعالى عن أن يلحقه خسران حتى تتحقق الحاجة إلى الجبران، وكان معنى العبادة في هذه الكفارات مرجحا على معنى العقوبة كما أشرنا إليه، وتكفير الاثم به باعتبار أنه طاعة وحسن في نفسه، قال تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} ولهذا أوجبنا الكفارة على المخطئ والمكره والبار في اليمين والحنث جميعا بأن حلف لا يكلم هذا الكافر فيسلم ثم يكلمه، ولهذا لم نوجب شيئا من هذه الكفارات على الكافر. فأما كفارة الفطر في رمضان فمعنى العقوبة فيها مرجح على معنى العبادة حتى إن وجوبها يستدعي جناية متكاملة، عرفنا ذلك بخبر الاعرابي حيث قال هلكت وأهلكت. وقال عليه السلام: من أفطر في رمضان متعمدا فعليه ما على المظاهر فاتفق العلماء على أنه يسقط بعذر الخطأ والاشتباه، فلما ظهر رجحان معنى العقوبة فيها من هذا الوجه جعلنا وجوبها بطريق العقوبة، فقلنا إنها تندرئ بالشبهات حتى لا تجب على من أفطر بعد ما أبصر هلال رمضان وحده للشبهة الثابتة بظاهر قوله عليه السلام: صومكم يوم تصومون أو بصورة قضاء القاضي يكون (اليوم) من شعبان، ولم يوجب على المفطر في يوم إذا اعترض مرض أو حيض في ذلك اليوم لتمكن الشبهة، ولم يوجب على من أفطر وهو مسافر وإن كان الاداء مستحقا عليه في ذلك الوقت بعينه بكونه مقيما في أول النهار، ولم يوجب على من نوى قبل انتصاف النهار ثم أفطر للشبهة الثابتة بظاهر قوله عليه السلام: لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل وقلنا بالتداخل في الكفارات والاكتفاء بكفارة واحدة إذا أفطر في أيام من رمضان، لأن التداخل من باب الاسقاط بطريق الشبهة، وأثبتنا معنى العبادة في الاستيفاء لانها سميت كفارة، فإنه يجوز أن يكون الوجوب بطريق العقوبة، والاستيفاء بطريق الطهرة كالحدود بعد التوبة، ولا يجوز أن يكون الوجوب بطريق العبادة والاستيفاء بطريق العقوبة بحال. وما يجتمع فيه الحقان وحق الله فيه أغلب فنحو حد القذف عندنا. فأما حد قطاع الطريق فهو خالص لله تعالى بمنزلة العقوبات المحضة، ولهذا لا نوجب على المستأمن إذا ارتكب سيئة في دارنا بمنزلة حد الزنا والسرقة بخلاف حد القذف. وأما ما يجتمع فيه الحقان وحق العباد أغلب فنحو القصاص، فإن فيها حق الله تعالى، ولهذا يسقط بالشبهات، وهي جزاء الفعل في الأصل، وأجزية الافعال تجب لحق الله تعالى، ولكن لما كان وجوبها بطريق المماثلة عرفنا أن معنى حق العبد راجح فيها، وأن وجوبها للجيران بحسب الامكان كما وقعت الاشارة إليه في قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} ولهذا جرى فيه الارث والعفو والاعتياض بطريق الصلح بالمال كما في حقوق العباد. وأما ما يكون محض حق العباد فهو أكثر من أن يحصى نحو ضمان الدية وبدل المتلف والمغصوب وما أشبه ذلك. وهذه الحقوق كلها تشتمل على أصل وخلف. فالأصل فيما ثبت به الايمان التصديق والاقرار، ثم قد يكون الاقرار مستندا في حق المكره على أنه قائم مقام التصديق، ثم التصديق والاقرار من الابوين يثبت الايمان في حق الولد الصغير على أنه خلف عن التصديق والاقرار في حقه، ثم تبعية الدار في حق الذي سبى صغيرا وأخرج إلى دار الاسلام وحده حلف عن تبعية الابوين في ثبوت حكم الايمان له، ثم تبعية السابي إذا قسم أو بيع من مسلم في دار الحرب خلف عن تبعية الدار في ثبوت حكم الايمان له حتى إذا مات يصلى عليه. وكذلك في شرائط الصلاة، فإن من شرائطها الطهارة، والأصل فيه الوضوء أو الاغتسال، ثم التيمم يكون خلفا عن الأصل في حصول الطهارة التي هي شرط الصلاة به كما قال تعالى: {ولكن يريد ليطهركم} وهو خلف مطلق في قول علمائنا رحمهم الله. وعند الشافعي رحمه الله هو خلف ضروري، ولهذا لم يعتبر التيمم قبل دخول الوقت في حق أداء الفريضة، ولم يجوز أداء الفريضتين بتيمم واحد لانه خلف ضروري فيشترط فيه تحقق الضرورة بالحاجة إلى إسقاط الفرض عن ذمته، وباعتبار كل فريضة تتجدد ضرورة أخرى، ولم يجوز التيمم للمريض الذي لا يخاف الهلاك على نفسه لأن تحقق الضرورة عند خوف الهلاك على نفسه، وجوز التحري في إناءين أحدهما طاهر والآخر نجس لأن الضرورة لا تتحقق مع وجود الماء الطاهر عنده ومع رجاء الوصول إليه بالتحري فلا تكون فرضية التيمم وشرط طلب الماء لأن الضرورة قبل الطلب لا تتحقق. وعندنا هو بدل مطلق في حال العجز عن الأصل فثبت الحكم به على الوجه الذي يثبت بالأصل ما بقي عجزه. ثم على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمة الله عليهما التراب خلف عن الماء. وعند محمد رحمه الله التيمم خلف عن الوضوء. وتظهر المسألة في المتيمم: عند محمد لا يؤم المتوضئين لأن التيمم خلف فكان المتيمم صاحب الخلف، وليس لصاحب الأصل القوي أن يبني صلاته على صلاة صاحب الخلف، كما لا يبني المصلي بركوع وسجود صلاته على صلاة المومي. وعندهما التراب كان خلفا عن الماء في حصول الطهارة به ثم بعد حصول الطهارة كان شرط الصلاة موجودا في حق كل واحد منهما بكماله بمنزلة الماسح يؤم الغاسلين لهذا المعنى، وقد يكون التيمم خلفا ضرورة في حال وجود الماء وهو أن يخاف فوات صلاة الجنازة أن لو اشتغل بالوضوء أو يخاف فوات صلاة العيد أن لو اشتغل بالوضوء. ثم الخلافة هنا عند محمد بين التيمم والوضوء بطريق الضرورة حتى لو صلى عليها بالتيمم ثم جئ بجنازة أخرى يلزمه تيمم آخر وإن لم يجد بين الجنازتين من الوقت ما يمكنه أن يتوضأ فيه. وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله التراب خلف عن الماء فيجوز له أن يصلي على الجنائز ما لم يدرك من الوقت مقدار ما يمكنه أن يتوضأ فيه على وجه لا تفوته الصلاة على جنازة. وهذا الذي بينا يتأتى في كل حق مما سبق ذكره إلا أن ببيان ذلك يطول الكتاب، والحاجة إلى معرفة الأصل هنا وهو أن الخلف يجب بما به يجب الأصل، وشرط كونه خلفا أن ينعقد السبب موجبا للاصل بمصادفته محله، ثم بالعجز عنه يتحول الحكم إلى الخلف، وإذا لم ينعقد السبب موجبا للاصل باعتبار أنه لم يصادف محله لا يكون موجبا للخلف حتى إن الخارج من البدن إذا لم يكن موجبا للوضوء كالدمع والبزاق والعرق لا يكون موجبا للتيمم، والطلاق قبل الدخول لما لم يكن موجبا لما هو الأصل وهو الاعتداد بالاقراء لا يكون موجبا لما هو خلف عنه وهو الاعتداد بالاشهر، واليمين الصادقة لما لم تكن موجبة للتكفير بالمال لا تكون موجبة لما هو خلف عنه وهو التكفير بالصوم، واليمين الغموس عندنا لما لم تنعقد موجبة للاصل وهو البر باعتبار أنها أضيفت إلى محل ليس فيه تصور البر لا تنعقد موجبة لما هو خلف عنه وهو الكفارة، واليمين على مس السماء ونحوه لما انعقدت موجبة للبر لمصادفتها محلها كانت موجبة لما هو خلف عن البر وهو الكفارة، وقد تقدم بيان هذا فيمن أسلم في آخر الوقت بعدما بقي منه مقدار ما لا يمكنه أن يصلي فيه، فإن الجزء الآخر من الوقت لما صلح أن يكون موجبا لاداء الصلاة صلح موجبا لما هو خلف عنه وهو القضاء. وعلى هذا الأصل قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إذا جاء المشهود بقتله حيا أو رجع الشهود والولي جميعا بعد استيفاء القصاص فاختار ولي القتيل تضمين الشهود فإنهم يرجعون على الولي بما يضمنون، لأن السبب وهو الضمان الذي لزمهم بطريق العدوان موجب للملك في المضمون، والمضمون وهو الدم مما يحتمل أن يكون مملوكا في الجملة، ألا ترى أن نفس من عليه القصاص في حكم القصاص كالمملوك لمن له القصاص، فإذا انعقد السبب موجبا للاصل لمصادفة محله ينعقد موجبا للخلف وهو الدية عند العجز عن إثبات ما هو الأصل وهو القصاص، بمنزلة من غصب مدبرا فغصبه منه آخر وأبق من يده، ثم ضمن المولى الغاصب الأول فإنه يرجع على الغاصب الثاني بالضمان وإن لم يملك المدبر، ولكن لما انعقد السبب موجبا للاصل بمصادفته محله يثبت الخلف قائما مقامه. وكذلك شهود الكتابة ببدل مؤجل إذا رجعوا فضمنهم المولى قيمة المكاتب كان لهم أن يرجعوا على المكاتب ببدل الكتابة، لأن السبب قد تقرر موجبا للاصل وهو الملك في المضمون لمصادفته محله فثبت (به الخلف)، وهو الرجوع ببدل الكتابة لوجود العجز عما هو الأصل، وهو ملك الرقبة باعتبار قيام الكتابة. وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول قد وجد من الشهود التعدي بإتلاف النفس حكما ومن الولي التعدي بإتلاف النفس حقيقة والمساواة ثابتة بين الحكمي والحقيقي في حكم الضمان، ثم إذا اختار تضمين المتلف حقيقة وهو الولي لم يرجع على الشهود بشئ، لانه ضمن بجنايته من حيث الاتلاف فكذلك إذا اختار تضمين الشهود قلنا لا يرجعون على الولي، لانهم ضمنوا بجنايتهم، بخلاف ما إذا شهدوا بالقتل الخطأ وأخذ الولي الدية، لأن وجوب الضمان هناك باعتبار تملك المال على من ألزمه القاضي الدية، فإذا ضمن الولي كان هو المتملك والمملوك سالم له، وإذا ضمن الشهود كانوا هم الذين تملكوا والمملوك في يد المولى أو قد صرفه إلى حاجته فيرجعون عليه بما ملكوه لهذا المعنى. قولهما إن السبب هنا انعقد موجبا للاصل، ممنوع، لأن الدم لا يملك بالضمان بحال، وفي القصاص الذي قالا الولي لا يملك نفس من عليه القصاص وإنما يستوفيه بطريق الإباحة، ولهذا لم يكن له حق الاستيفاء في الحرم، ولا يتحول حقه إلى البدل إذا قتل من عليه القصاص ظلما وإذا لم يكن محلا للملك عرفنا أن السبب ما انعقد موجبا للاصل، ولو كان الدم بمحل أن يملك لم يكن إيجاب الضمان للشهود على الولي أيضا، لانه صار متلفا عليهم ملك الدم، وإتلاف ملك الدم لا يوجب الضمان سواء أتلفه حقيقة أو حكما، ألا ترى أن من قتل من عليه القصاص فإنه لا يضمن لمن له القصاص شيئا. وكذلك شهود العفو إذا رجعوا أو المكره على العفو لا يضمن أحد منهم شيئا، وإن أتلف ملك الدم الثابت لمن له القصاص، وبه فارق المدبر والمكاتب، لأن هناك ما هو الأصل وهو ملك الرقبة في الموضع الذي يكون ثابتا يكون موجبا ضمان خلفه عند الاتلاف، فكذلك إذا انعقد السبب موجبا للاصل ثم لم يعمل لعارض وهو التدبير والكتابة قلنا يكون موجبا لما هو خلفه وهو القيمة وبدل الكتابة فيرجع بهما.
|